ليس دفاعاً عن الجموعية.. ولكن شهادة وفاء لأهل العطاء
السيد/ رئيس تحرير جريدة «الوطن»
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لم يسبق لي أن كتبت مقالاً أو موضوعاً في أية صحيفة من الصحف من قبل، ولم يكن ذلك لشيء.. فقط إنني أهوى الإطلاع ولم أميل للكتابة.. وما أثار حفيظتي وحرّك فضولي للكتابة اليوم هو ما ظللتُ أقرأه خلال هذه الأيام عن بعض الكتابات التي وردت على صفحات جريدتكم الغراء.. منها ما ورد بعمود «عسل مختوم» للكاتب محمد حامد الحمري قبل أيام عن الجموعية والجميعاب والبيان الصادر منهم رداً على ذلك المقال في العدد «1073» بتاريخ 3/5/2006م على الصفحة الأولى وتمامته على الصفحة رقم «4» من نفس العدد.
دفعني لكتابة هذا المقال ما وجدته من كرمٍ وجودٍ لم أشهد له مثيلاً برغم أنني طفت أنحاء شتى من أرض المليون ميل مربع، وذلك من خلال عملي الحالي.
وما أريد أن أُشير إليه هو ما عرفته عن هذه الفئة المضيافة من أهل السودان الحبيب والذي أفسدت طبائع الكثير منهم ما يدور من صراعات سياسية وجهوية وعرقية هنا وهناك الأمر الذي جعل البعض يتحفظ في تعامله مع الغير، ضيفاً كان أم زائراً، خلاصة الأمر هو أنني وبالضبط في عام 1987م عندما كنت طالباً بجامعة القاهرة فرع الخرطوم كنا نسكن داخلية تتبع لرابطة طلاب دارفور بحي بانت غرب وكان بالمنزل الذي نسكنه دكان لأخ عزيز لم أقابله منذ فترة ولم أعرف أين هو الآن يُدعى أحمد القاضي، هذا الأخ توفت شقيقته في يوم من الأيام ونحن تأخرنا في الجامعة ولم نحضر ذلك، وقد تم تشييع الجثمان إلى مقابر حمد النيل وسافر الأخ أحمد ومَنْ معه إلى القرية وهي من قرى الجموعية الشهيرة ـ قرية الشيخ الصديق ـ هذه القرية التي ظلّت عالقة بذهني ولم أنساها قط.. عند عودتنا من الجامعة علمنا بالخبر وقررنا السفر إلى تلك القرية التي لم نعرفها ـ غادرنا أم درمان صباح اليوم التالي أنا واثنان من زملائي وهما الأخ محمد خير والأخ إسماعيل كِتِر، تحركنا بعربة بص «بدفورد» وفي الطريق وبعد تجاوزنا لمنطقة المنتزه ـ على ما اعتقد ـ حدث عطب بالعربة في قرية صغيرة بها مسجد مشيّد بالقرب من الشارع لم أذكر اسم هذه القرية ولكن من ملامحها تشعر بأنها قرية فقيرة وأهلها فقراء.. صيانة العربة استغرقت زمناً طويلاً ونحن مهمومين لمغادرة هذه المنطقة خاصة وأن الحر شديد ولم نتناول وجبة الإفطار والجوع قد إشتدّ بنا، ونحن على هذا الحال إذا برجل قدِم إلينا من منزله الذي لا يبعد عن الطريق كثيراً وهو يحمل صواني فارغة وأشياء أخرى، بوصولهم بدأ الرجل في توزيع الصواني ووضع كميات كبيرة من الكسرة على كلٍ منها وطلب من جميع ركاب البص والذين يتراوح عددهم بين الـ 40 إلى 45 فرداً الحضور لتناول الوجبة وكان يتجوّل بين المجموعات ويُوزّع المُلاح الذي كان يحمله على الجردلين الكبيرين والكسرة إلى أن إكتفى الجميع حيث شبعنا جميعاً وتبقى فائض، وكان الرجل يحلف على ركاب البص بألاّ يعيدوا شيئاً من ذلك، ولكن الأكل فاض ورجع بالباقي إلى المنزل وذلك بعد إصلاح البص وتحركه من تلك القرية المضيافة.. حينها حمدنا الله كثيراً وأثنينا عليه ودعونا بأن يبارك لهذا الرجل في رزقه وكان ذلك بمثابة عنوان لنا لأهل هذه المنطقة.. وصلنا القرية المعنيّة ولا أدري حتى هذه اللحظة هل هي أيضاً تتبع لأهلنا الجموعية أم أنهم جيران لهم وهم أهل كرم أيضاً.. وصلنا قبل أذان المغرب وكنّا ضيوفاً على أهل البلد الذين وجدناهم جميعاً بمكان المأتم.. قمنا بمواساتهم في فقيدتهم.. فضلونا على بساطات من (الشِمال) مصنوعة من الصوف وأحضروا لنا الماء وبعد حوالى أقل من نصف الساعة حضر إلينا أحد الشباب وطلب منّا التحرُّك معه.. ذهبنا معه إلى منزلٍ كبيرٍ مجهز بكل ماهو مطلوب وأكثر.. حتى ظننّا بأننا داخل فيلا بمدينة سياحية.. هذا المنزل يقع غرب مصنع الجبنة يتوسط القرية.. قوبلنا في هذا المنزل بالذبائح وكأننا زعماء عشائر أو وزراء أو شخصيات مهمة في زيارة رسمية رغم أننا طلاب لا حولّ ولا قوة لنا، وكنا حينها ونتيجة للظروف الإقتصادية الصعبة التي كُنّا نعيشها من أجل تكملة الدراسة لا نملك حق الوجبة وأحياناً كُنّا نتناول وجبة واحدة في اليوم، واستمرت ضيافتنا إلى ما بعد منتصف الليل وكان معنا عدد كبير من سكان القرية حتى نسينا ما حضرنا من أجله وخُيِّل لنا أننا في وليمة رسمية، بعد منتص الليل إنفضّ من حولنا المتسامرون بعد وداعهم لنا ومنحهم لنا الإذن بالعودة حتى لا تفوتنا المحاضرات في الجامعة، وفي تمام الساعة الرابعة صباحاً حضر إلينا أحدهم وأخبرنا بأن البص جاهز للسفر، وإذا بنا نخرج لنجد البص يقف أمام المنزل في إنتظارنا.. ركبنا البص على مقاعد مميّزة وذلك قبل ركوب باقي أهل المنطقة والذين وجدناهم ينتظرون البص في أماكن للتجمع، وكان في وداعنا عدد كبير من سكان القرية المضيافة ـ الشيخ الصديق ـ والتي ظلّت عالقة بأذهاننا ولم ولن ننساها.. فقط نسأل الله أن يوفقنا ويَمِنُّ علينا بأن نرُد هذا الجميل والذي هو دَيَنٌ مُعلّق على أعناقنا.. ولو الجزء اليسير.. هؤلاء هم أهلنا الجموعية والجميعاب ومن جاوروهم فهم أهل جود وكرم وطيبة وسعة صدر.
اللهم صبِّرهم على أية مصيبة ونسأل الله العليُّ القدير أن يرفع عنهم البلاء والغلاء والفتن ما ظهر منها وما بطن.
والله المستعان
مقدم شرطة/ صالح هارون عبد الشافع
هيئة الشؤون المالية
رئاسة الشرطة