ثريةٌ كانت ذات جمالٍ وعفاف فهي من أشراف سيدات قومها وأعظمهن قدراً وأعلاهُنَ جاهاً ومنزلةً فَدُعيت بـ (الطاهرة)، مَرَت بعهد الفتوة والصِبا ولم يخفق قَلبُها لرجلٍ سواه.
لها تجارةٌ ترغبُ الرجالُ فيها وكُلٌ يُمنيَ نَفسهُ السير بها ولكنها اختارتهُ من بينهم فارسلت غلامَها إليه عارضاً عليه رَغبةَ سيدتهِ بأن يخرجَ في تجارتها فوافقَ دونَ أن يضعَ شرطاً لتدارسه هذا الأمرَ مع عَمهِ الذي توّلى تربيتهُ ونشأ في كنفهِ حيثُ شجعَهُ وتَمنىّ أن توليَهُ أمرَ تجارتها لشدةِ الزمانِ وانحسارهِ عليهم بالفاقَةِ.
خرجَ ابنُ الخامسةِ والعشرينَ بتجارة (الطاهرةِ) يَحفُ به غلامُها (ميسرةٌ) فاستغرقَ متأملاً حديثَها حينَ أرسلت عليهِ وكيفَ أن أساريرها أنبسطت لَهُ فوعدتهُ أن تعطيهُ أفضلَ ما كانت تعطيهِ لغيره من التجار وكيفَ إنها شيعتهُ بأعذبِ الكلماتِ وخالصِ الدُعاء.
مضى بتجارتها حريصاً عليها حتى وصولهِ الشامَ فمكث فيها أياماً، درسَ خلالها السوقَ وعرفَ لغتهُ وسجايا القومِ عارضاً عليهم بضاعتهُ فتلقفوها منه لأن أمرهُ قد شاعَ بينهم بأنه (الصادقُ الأمينُ) ودماثةُ أخلاقهِ قد أغرتهم بتجارتهِ فاشتروها منه بالقيمة التي أرادها.
عادَ إليها بربحٍ لم تحصل عليه من قبلُ، وحدَثها (غلامُها) بما لَمِسَ من سموِ أخلاق رفيقهِ ومما رأى من عجيب الآياتِ، فأنسابَ ذلك الحديثُ إلى أعماقِها ورقَ لَهُ قلُبها وأنبرت عاطفةُ النساءِ لديها، فهيَّ أمامَ رَجُلٍ نادرِ المثالِ... فهفا قلبُها لنداءِ المرأةِ في داخلها وهيَّ التي خطبها أثرياءُ وعظماءُ قومِها ولكنها رَغبتْ عنهم جميعاً فردت أشرافهم ولم تجد حرجُا في أن تعرض رغبتها بالاقتران بفقيرٍ عَمِلَ في تجارتها، لأنها وجدت فيهِ ضالَتها فاختارتهُ.. من بينهم فكيف يتيسرُ لامرأة أن تخطب رجلاً..؟! في مجتمعٍ لم يعهد ذلك ولكنَ السبيلَ لتحقيقه سلكتهُ صديقتها (نفيسةُ) إذ ذهبت إليه والتقت به سائلةً: ما يَمنعُكَ أن تتزوجَ؟ فقال: ما في يديَّ شيءٌ. قالت: فإن كُفيتَ ودُعيتَ؟ قالَ ومَنْ؟ قالت: (خديجةُ بنت خويلد).. فطفح وجَههُ بالسرورِ وسارعَ لإعلانِ القبولِ.
ذهبت (نفيسة) لتُبشرَ صاحبتها بنتيجةِ حديثها. فحلقَتْ بجناحيَّ السعادةِ وحددت لها موعداً ليلقتي فيه أهلُهُ بذويها لإعلان خطبتها منه وأوصتها بأن يوافقَ الخاطبون على مَهرها مَهما غَلى فإنها ستَدفعُهُ لهم بعدئذٍ، فعادت (نفيسةُ) لتخبرهُ برسالةِ (خديجة).
عرضَ النبي (محمد) رغبتهُ على عَمِه (أبي طالب) رضي الله عنه فقال: نِعمَ ما قصدتَ فإنها (الطاهرةُ) ذاتُ العقِل الرشيدِ.. وطلب من أخيه (حمزةَ) ان يرافقَهُ فذهبا خاطبينِ بعد أن أطلعَه على ما جرى، وعِند وصولِهما لبيتِ (خويلد) أستقبلهما وأخاهُ (عمرو بنُ أسد) وبعد هنيئةٍ غادرَ (خويلد) مفوضاً أمرَ أبنتهِ (خديجةَ) لعَمِها (عمروُ بن أسد) فاتفقَ معهما على مِهرها.
انتقلت (الطاهرة) لبيتِ (الصادق الأمين) فاكتنفت السعادةُ بيتهما فكانَ نورُه يملأُ قلبها غبطةً، فبسطت ثروتها بين يديه يبذل منها ما يراهُ في وجوه البر والمعروف ناظراً إلى وجهها الملائكي الوديع فيرى فيه علاماتِ الرضا والتقوى، كانت تَعرفُ من هو..!! وما يحملهُ بين ثنايا ذاتهِ، فكانت أَنيسهُ إذا استوحشَ وملاذُهُ إذا اضطربَ، روى لها خادُمها (ميسرةُ) ما رأى منهُ في سفره مَعه فعرفت عنه شيئاً وبَعدَ اقترانها بهِ عرفت مكنونَ النبوةَ فيهِ. فهو منقطعٌ عنها لله، يحبُ الخلوةَ مع ربهِ. يخرجُ إلى (غار حراء) فلم تُبدي ضيقاً أو تذمُراً مما يصنعُ بل كانت تُباركهُ وتظلُ عيناها تَرقبهُ وهو في الطريق إلى الغارِ وتُطلقُ لسانَها بأفضِل الدعواتِ حتى يعودَ إليها سالماً. ترعاهُ وتعينهُ إلى طاعةِ ربهِ وهذا أعظمُ ما يرجوه الزوج من أهله، فكانت تُهيء لَهُ الزادَ وتزورهُ وتبقى معه طواعيةً في غار النبوةِ، وذات مرةٍ رأت في عينيه عطفاً على (زيد بن حارثة) غلامُها فوهبته لَهُ ليعتقهُ من عبوديتهِ فكانَ ذلك من أسباب بلاءِ (زيد) في الذود عن الإسلام.
يَدٌ حانيةٌ وصدرٌ حنون ولسانٌ سخرتهُ لمرضاة اللهِ وزوجها الحبيب، فعرفت كيفَ تصرفُ عنه حزنَهُ وتُزيلُ أساه.. لقد أدركت بنور بصيرتها ومنطق الحكمة المستودعِ فيها وسدادُ رأيها أن في زوجها نور الله فقالت لَهُ (فو الذي نفسُ خديجةَ بيدهِ إني لأرجو أن تكون نبيَّ هذه الأمةِ) فكانت تُسمَعُه أفضلَ الكلمِ وتواسيهِ بأحسنِ المواساةِ وتُعينهُ على الصمود والثباتِ لحملِ أشرفِ الرسالاتِ وقد دَلتْ كلماتُها عن ذكاءٍ فَذٍ وفراسةٍ صادقةٍ وكان أقوى دليلٍ على إخلاصها لَهُ ووفائها هُوَ تصديقها لدَعوته قبل ولادتها وإيمانها برسالته التي جاء بها. حتى غدت أولُ المسلمين.
بدأ رسولُ اللهِ ساعياً في نشرِ ما بُلغَ به مستعذباً ما يلقاهُ في سبيل الله وقد أمعنت قريشُ في طغيانها بَعد أن أمتدت يَدُ الإسلامِ للمستضعفينَ فشعروا بقوتهم فيه وللعبيد ليصبحوا أحراراً وفقَ دستوره الرباني فزادَ ذلك من عتوِّ قريشٍ لِتُلجأَ المسلمين إلى شِعْبِ (أبي طالب) وفرضت عليهم حصاراً وصلت قساوُتهُ إلى منع الطعامِ والماءِ عنهم فعانت (السيدةُ خديجة) ماعاناةُ المسلمونَ بل أشدَ لأنها القرينةُ التي اختارها اللهُ لتشدَ من أزرِ نَبيهِ فدامَ حصارُ المشركينَ لبني هاشمَ ومن دخلَ الإسلام معهم ثلاثُ سنينَ عجافٍ وبعد أن انتهى بنزول الوحي عليه بأن، (الإرضةَ) أكلت وثيقتهمُ التي علقوها في الكعبةِ ونقلَ خبرها لهم (أبو طالبٍ) خارجاً من حصارهِ عليهم بالبينة التي أخبرهُ بها رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) فانتهى حصارهم بتفرقِ كلمتهم وقد قاسَمتْ (السيدة خديجة) مرارة تلك السنواتِ مع رسول الله وأبي طالبٍ ومن وحَدَ الله معهمُ بحلاوة الإيمان ولقد فازت عليها السلام من دون النساءِ أجمعين بسلامٍ من الله رب العالمين فقال رسول اللهُ (أتاني جبريلٌ فقال: يا رسولَ اللهِ هذه خديجةُ قد أتتك ومَعها إناءٌ فيهِ طعامٌ أو إدامٌ أو شرابٌ وإذا أتتكَ فأقرأ عليها من ربها السلامُ ومني).
حبا الله رسولهُ بـ (الكوثر) فولَدت السيدة (خديجةُ) فاطمة الزهراء (عليها السلام) وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يُضللهُما بجناحهِ الوارفِ ولم ينظرْ لأمرةٍ سوى خديجة مدة مكوثِها عَندُهُ أربعاً وعشرين سنة.. وكان يقولُ لأصحابه (خيرُ نساءِ العالمينَ مريمُ بنتُ عمرانٍ وآسيةُ امرأة فرعونَ وخديجةُ بنتُ خويلدٍ وفاطمةُ ابنة محمد).
رافقت حصارَ المشركينَ المضروب على (أبي طالب) بسبب الإسلام نِدرةٌ في الطعامِ والشرابِ أضرت بالمسلمين فاوقعت فيهمُ المرضَ وبانَ عليهم الضعفُ والهزالُ... أضَرفيهم ذلك الطوق الثقيل فماتَ أبو طالبٍ زعيمُ هاشمَ (رضوان الله عليه) ومِن بَعدهِ مَرضت السيدةُ (خديجةُ) مرضاً شديداً فخيمَ على البيت النبوي القلقُ والخوف من فقدانها.. فحاقوا حولَ فراشِها تغالبهمُ الدموعُ.. ووقفَ رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) أمامَ أحبِ الخلقِ إليه وقد شَحبَ لونُها وضعفتْ أَنفاسُها ولم يتمالكْ حَبسَ دموعهِ وهو يَرى القلبَ الذي خفقَ حُباً وإيماناً برسالتهِ يحتضرُ أمامهُ وبعد هنيئةٍ توقَفَ عن الأنفاسِ وفارقت (الطاهرةُ) الحياةَ لتكونَ أولَ شهيدة في الإسلام.
مضَت إلى جنانِ الخُلدِ وخَلفت في قَلبِ مَن أحَبها أعمقَ الجراحِ فأنطوت برحيلها عَنهُ صفحةٌ من نورِ الإيمانِ مترعةٌ بالحُبِ والحنانِ عامرةٌ برضا الجبار الرحيم... مضَت (خديجة الكبرى) عليها السلام إلى دار الخلودِ مستقرةً في بيتٍ وعدها اللهُ به وهي على أبهى صورةٍ تَحفُ بها الملائِكُ وهي منشغلةٌ عن هذا وذاكَ في انتظار حبيبها رسول الله (صلى الله عليه وآله).